فصل: أصحاب أبى الحسين ابن أبي عمرو الخياط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الملل والنحل **


 المعمرية

أصحاب معمر بن عباد السلمى وهو من أعظم القدرية فرية‏:‏ في تدقيق القول بنفي الصفات ونفي القدر خيره وشره من الله تعالى والتكفير والتضليل على ذلك‏.‏

وانفرد عن أصحابه بمسائل‏:‏ منها‏:‏ أنه قال‏:‏ إن الله تعالى لم يخلق شيئاً غير الأجسام فأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام‏:‏ إما طبعاً كالنار التي تحدث الإحراق والشمس والحرارة والقمر التلوين وإما اختياراً كالحيوان يحدث الحركة والسكون والاجتماع والافتراق‏.‏

ومن العجب أن حدوث الجسم وفناءه عنده عرضان فكيف يقول‏:‏ إنها من فعل الأجسام وإذا لم يحدث الباري تعالى عرضاً فلم يحدث الجسم وفناءه فإن الحدوث عرض فيلزمه أن لا يكون لله تعالى فعل أصلاً‏.‏

ثم ألزم‏:‏ أن كلام الباري تعالى‏:‏ إما عرض أو جسم‏.‏

فإن قال‏:‏ هو عرض فقد أحدثه الباري تعالى فإن المتكلم على أصله هو من فعل الكلام أو ما يلزمه‏:‏ أن لا يكون لله تعالى كلام هو عرض وإن قال هو جسم فقد أبطل قوله‏:‏ إنه أحدثه في محل فإن الجسم لا يقوم بالجسم فإذا لم يقل هو بإثبات الأزلية ولا قال بخلق الأعراض فلا يكون لله تعالى كلام يتكلم به على مقتضى مذهبه‏.‏

وإذا لم يكن له كلام لم يكن له آمراً ناهياً وإذا لم يكن أمر ونهي لم تكن شريعة أصلاً فأدى واهبه إلى خزي عظيم‏.‏

ومنها‏:‏ أنه قال‏:‏ إن الأعراض لا تتناهى في كل نوع‏.‏

وقال كل عرض قام بمحل فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام وذلك يؤدي إلى التسلسل‏.‏

وعن هذه المسألة هو وأصحابه‏:‏ أصحاب المعاني‏.‏

وزاد على ذلك فقال‏:‏ الحركة إنما خالفت السكون لا بذاتها بل بمعنى أوجب المخالفة وكذلك مغايرة‏:‏ المثل ومماثلته وتضاد الضد الضد كل ذلك عنده بمعنى‏.‏

ومنها‏:‏ ما حكى الكعبي عنه‏:‏ أن الإرادة من الله تعالى للشيء غير الله وغير خلقه للشيء وغير‏:‏ الأمر والأخبار والحكم فأشار إلى أمر مجهول لا يعرف‏.‏

وقال‏:‏ ليس للإنسان فعل سوى الإرادة‏:‏ مباشرة كانت أو توليداً وأفعاله التكليفية‏:‏ من القيام والقعود والحركة والسكون في الخير والشر‏.‏

كلها مستندة إلى إرادته لا على طريق المباشرة ولا على طريق التوليد وهذا عجب غير أنه إنما بناه على مذهبه في حقيقة الإنسان‏.‏

وعنده‏:‏ الإنسان معنى أو جوهر غير الجسد وهو‏:‏ عالم قادر مختار حكيم ليس بمتحرك ولا ساكن ولا متكون ولا متمكن ولا يرى ولا يمس ولا يحس ولا يجس ولا يحل موضعاً دون موضع ولا يحويه مكان ولا يحصره زمان لكنه مدبر للجسد وعلاقته مع البدن علاقة التدبير والتصرف‏.‏

وإنما أخذ هذا القول من الفلاسفة حيث قضوا بإثبات النفس الإنسانية أمراً ما هو جوهر قائم بنفسه‏:‏ لا متحيز ولا متمكن وأثبتوا من جنس ذلك موجودات عقلية مثل العقول المفارقة‏.‏

ثم لما كان ميل معمر بن عباد إلى مذهب الفلاسفة ميز بين أفعال النفس التي سماها إنساناً وبين القالب الذي هو جسده فقال‏:‏ فعل النفس هو الإرادة فحسب النفس إنسان ففعل الإنسان هو لإرادة وما سوى ذلك‏:‏ من الحركات والسكنات والاعتمادات - فهي من فعل الجسد‏.‏

ومنها‏:‏ أنه كان ينكر القول‏:‏ بأن الله تعالى قديم لأن قديم أخذ من قدم يقدم فهو قديم وهو فعل كقولك‏:‏ أخذ منه ما قدم وما حدث‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ هو يشعر بالتقادم الزماني ووجود الباري تعالى ليس زماني‏.‏

ويحكى عنه أيضاً‏:‏ أنه قال‏:‏ الخلق غير المخلوق والإحداث غير المحدث‏.‏

وحكى جعفر بن حرب عنه أنه قال‏:‏ إن الله تعالى محال أن يعرف نفسه لأنه يؤدي إلى أن لا يكون العالم والمعلوم واحداً ومحال أن يعلم غيره كما يقال‏:‏ محال أن يقدر على الموجود من حيث هو موجود‏.‏

ولعل هذا النقل فيه خلل فإن عاقلاً ما لا يتكلم بمثل هذا الكلام الغير المعقول‏.‏

لعمري‏!‏ لما كان الرجل يميل إلى الفلاسفة‏.‏

ومن مذهبهم‏:‏ أنه ليس علم الباري تعالى علماً انفعالياً أي تابعاً للمعلوم بل علمه علم فعلي فهو من حيث هو فاعل وعلمه هو الذي أوجب الفعل وإنما يتعلق بالموجود حال حدوثه لا محالة ولا يجوز تعلقه المعدوم على استمرار عدمه وانه علم وعقل وكونه‏:‏ عقلاً وعاقلاً ومعقولاً شيء واحد فقال ابن عباد‏:‏ لا يقال‏:‏ يعلم نفسه لأنه يؤدي إلى تمايز بين العالم والمعلوم ولا يعلم غيره لأنه يؤدي إلى كون علمه من غيره يحصل‏.‏

فإما لا يصح النقل وإما أن يحمل على مثل هذا المحمل‏.‏

ولسنا من رجال ابن عباد فنطلب لكلامه وجهاً‏.‏

 المزدارية

أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بابي موسى الملقب بالمرداد‏.‏

وقد تلمذ لبشر بن المعتمر وأخذ العلم منه وتزهد ويسمى راهب المعتزلة‏.‏

وإنما انفرد عن أصحابه بمسائل‏:‏

الأولى منها‏:‏ قوله في القدر‏:‏ إن الله تعالى يقدر على أن يكذب ويظلم ولو كذب وظلم كان إلهاً كاذباً وظالماً تعالى الله عن قوله‏.‏

والثانية قوله في التولد‏:‏ مثل قول أستاذه وزاد عليه‏:‏ بأن جوز وقوع فعل واحد من فاعلين على سبيل التولد‏.‏

والثالثة قوله في القرآن‏:‏ إن الناس قادرون على فعل القرآن‏:‏ فصاحة ونظما وبلاغة وهو الذي بالغ في القول بخلق القرآن وكفر من قال بقدمه بأنه قد أثبت قديمين‏.‏

وكفر أيضاً من لابس السلطان وزعم أنه لا يرث ولا يورث وكفر أيضاً من قال‏:‏ إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ومن قال‏:‏ إنه يرى بالأبصار وغلا في التكفير حتى قال‏:‏ هم كافرون في قولهم‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وقد سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعاً فكفرهم فأقبل عليه إبراهيم وقال‏:‏ الجنة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك‏!‏ فخزي ولم يحر جواباً‏.‏

وقد تلمذ له أيضاً‏:‏ الجعفران وأبو زفر ومحمد بن سويد‏.‏

وصحب‏:‏ أبو جعفر محمد ابن عبد الله الإسكافي وعيسى ابن الهيثم‏:‏ جعفر بن حرب الأشج‏.‏

وحكى الكعبي عن الجعفرين أنهما قالا‏:‏ إن الله تعالى خلق القرآن في اللوح المحفوظ ولا يجوز أن ينقل إذ يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في حالة واحدة وما نقرأه فهو حكاية عن المكتوب الأول في اللوح المحفوظ وذلك فعلنا وخلقنا‏.‏

قال‏:‏ وهو الذي اختاره من الأقوال المختلفة في القرآن‏.‏

وقالا في تحسين العقل وتقبيحه‏:‏ إن العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع وعليه أن يعلم أنه قصر ولم يعرفه ولم يشكره‏:‏ عاقبه عقوبة دائمة فأثبت التخليد واجباً بالعقل‏.‏

 أصحاب ثمامة بن أشرس النميري

كان جامعاً بين سخافة الدين وخلاعة النفس مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين‏.‏

وانفرد عن أصحابه بمسائل‏:‏ منها‏:‏ قوله‏:‏ إن الأفعال المتولدة لا فاعل لها إذ م يمكنها إضافتها إلى فاعل أسبابها حتى يلزمه أن يضيف الفعل إلى ميت مثل ما إذا فعل السبب ومات ووجد المتولد بعده‏.‏

ولم يمكنه إضافتها إلى الله تعالى لأنه يؤدي إلى فعل القبيح وذلك محال‏.‏

فتحير فيه وقال‏:‏ المتولدات أفعال لا فاعل لها‏.‏

ومنها‏:‏ قوله في الكفار والمشركين والمجوس واليهود والنصارى والزنادقة والدهرية‏:‏ إنهم يصيرون في القيامة تراباً وكذلك قوله في البهائم والطيور وأطفال المؤمنين‏.‏

ومنها‏:‏ قوله‏:‏ الاستطاعة هي السلامة وصحة الجوارح وتخليتها من الآفات وهي قبل الفعل‏.‏

ومنها‏:‏ قوله‏:‏ إن المعرفة متولدة من النظر وهو فعل لا فاعل له كسائر المتولدات‏.‏

ومنها‏:‏ قوله في تحسين العقل وتقبيحه وإيجاب المعرفة قبل ورود السمع‏:‏ مثل قول أصحابه غير أنه زاد عليهم فقال‏:‏ من الكفار من لا يعلم خالقه وهو معذور‏.‏

وقال‏:‏ إن المعارف كلها ضرورية وإن من لم يضطر إلى معرفة الله سبحانه وتعالى فليس هو مأموراً بها وإنما خلق للعبرة ومنها‏:‏ قوله‏:‏ لا فعل للإنسان إلا الإرادة وماعداها فهو حدث لا محدث له‏.‏

وحكى ابن الرواندي عنه أنه قال‏:‏ العالم فعل الله تعالى بطباعه ولعله أراد بذلك ما تريده الفلاسفة‏:‏ من الإيجاب بالذات دون الفلاسفة من القول بقدم العالم إذ الموجب لا ينفك عن الموجب‏.‏

وكان ثمامة في أيام المأمون وكان عنده بمكان‏.‏

 الهشامية

أصحاب هشام بن عمرو الفوطي‏.‏

ومبالغته في القدر أشد وأكثر من مبالغة أصحابه‏.‏

وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وإن ورد بها التنزيل‏.‏

منها قوله‏:‏ إن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين بل هم المؤتلفون باختيارهم وقد ورد في التنزيل‏:‏ ‏"‏ ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ‏"‏‏.‏

ومنها قوله‏:‏ إن الله لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين ولا يزينه في قلوبهم وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ‏"‏‏.‏

ومبالغته في نفي إضافات‏:‏ الطبع والختم والسد وأمثالها - أشد وأصعب وقد ورد بجميعها التنزيل قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ بل طبع الله عليها بكفرهم ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً ‏"‏‏.‏

وليت شعري‏!‏ ما يعتقده الرجل إنكار ألفاظ التنزيل وكونها وحياً من الله تعالى فبكون تصريحاً بالكفر‏!‏ أو إنكار ظواهرها من نسبتها إلى الباري تعال ووجوب تأويلها وذلك عين مذهب أصحابه ومن بدعه في الدلالة على الباري تعالى قوله‏:‏ إن الأعراض لا تدل على كونه خالقاً ولا تصلح الأعراض دلالات بل الأجسام تدل على كونه خالقاً‏.‏

وهذا أيضاً عجب‏.‏

ومن بدعه في الإمامة قوله‏:‏ إنها لا تنعقد في أيام الفتنة واختلاف الناس وإنما يجوز عقدها في حال الاتفاق والسلامة‏.‏

وكذلك أبو بكر الأصم من أصحابه كان يقول‏:‏ الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم‏.‏

وإنما أراد بذلك الطعن في إمامة علي - رضي الله عنه إذ كانت البيعة في أيام الفتنة من غير اتفاق من جميع أصحابه إذ بقى في كل طرف طائفة على خلافة‏.‏

ومن بدعه‏:‏ أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن إذ لا فائدة في وجودهما وهما جميعاً خاليتان ممن ينتفع ويتضرر بهما وبقيت هذه المسألة منه اعتقاداً للمعتزلة‏.‏

وكان يقول بالموافاة وأن الإيمان هو الذي يوافي الموت‏.‏

وقال‏:‏ من أطاع الله جميع عمره وقد علم الله أنه يأتي بما يحبط أعماله ولو بكبيرة لم يكن مستحقاً للوعد وكذلك على العكس‏.‏

وصاحبه عباد من المعتزلة وكان يمتنع من إطلاق القول بأن الله تعالى خلق الكافر لأن الكافر‏:‏ كفر وإنسان والله تعالى لا يخلق الكفر‏.‏

وقال النبوة جزاء على عمل وإنها باقية ما بقيت الدنيا‏.‏

وحكى الأشعري عن عباد أنه زعم‏:‏ أنه لا يقال‏:‏ إن الله تعالى لم يزل قائلاً ولا غير قائل‏.‏

ووافقه الإسكافي على ذلك‏.‏

قالا‏:‏ ولا يسمى متكلماً‏.‏

وكان الفوطي يقول‏:‏ إن الأشياء قبل كونها‏:‏ معدومة وليست أشياء وهي بعد أن تعدم عن وجود تسمى أشياء‏.‏

ولهذا المعنى كان يمنع القول‏:‏ بأن الله تعالى قد كان لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها فإنها لا تسمى أشياء‏.‏

قال‏:‏ وكان يجوز القتل والغيلة على المخالفين لمذهبه وأخذ أموالهم غصباً وسرقة لاعتقاده كفرهم واستباحة دمائهم وأموالهم‏.‏

 الجاحظية

أصحاب عمرو بن بحر أبي عثمان الجاحظ‏.‏

كان من فضلاء المعتزلة والمصنفين لهم وقد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط وروج كثير أمن مقالاتهم بعباراته البليغة وحسن براعته اللطيفة‏.‏

وكان في أيام المعتصم والمتوكل‏.‏

وانفرد عن أصحابه بمسائل‏:‏ منها‏:‏ قوله‏:‏ إن المعارف كلها ضرورية طباع وليس شيء من ذلك من أفعال العباد وليس للعبد كسب سوى الإرادة وتحصل أفعاله منه طباعاً كما قال ثمامة‏.‏

ونقل عنه أيضاً‏:‏ أنه أنكر أصل الإرادة وكونها جنساً من الأعراض فقال‏:‏ إذا انتهى السهو عن الفاعل وكان عالماً بما يفعله فهو المريد على التحقيق وأما الإرادة المتعلقة بفعل الغير فهو ميل النفس إليه‏.‏

وزاد على ذلك بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة وأثبت لها أفعالاً مخصوصة بها‏.‏

وقال باستحالة عدم الجواهر فالأعراض تتبدل والجواهر لا يجوز أن تفنى ومنها‏:‏ قوله في أهل النار‏:‏ إنهم لا يخلدون فيها عذاباً بل يصيرون إلى طبيعة النار‏.‏

وكان يقول‏:‏ البار تجذب أهلها إلى نفسها من غير أن يدخل أحد فيها‏.‏

ومذهبه‏:‏ مذهب الفلاسفة في نفي الصفات وفي إثبات القدر خيره وشره من العبد‏:‏ مذهب المعتزلة‏.‏

وحكى الكعبي عنه أنه قال‏:‏ يوصف الباري تعالى بأنه مريد بمعنى أنه لا يصح عليه السهو في أفعاله ولا الجهل ولا يجوز أن يغلب ويقهر‏.‏

وقال‏:‏ إن الخلق كلهم من العقلاء عالمون بأن الله تعالى خالقهم وعارفون بأنهم محتاجون إلى النبي وهم محجوجون بمعرفتهم‏.‏

ثم هم صنفان‏:‏ عالم بالتوحيد وجاهل به فالجاهل معذور والعالم محجوج‏.‏

ومن انتحل دين الإسلام فإن اعتقد أن الله تعالى ليس بجسم ولا صورة ولا يرى بالأبصار وهو عدل لا يجوز ولا يريد المعاصي وبعد الاعتقاد واليقين أقر بذلك كله فهو مسلم حقاً‏.‏

وإن لم ينظر في شيء من ذلك كله واعتقد أن الله تعالى ربه وان محمداً رسول الله فهو مؤمن لا لوم عليه ولا تكليف عليه غير ذلك‏.‏

وحكى ابن الرواندي عنه أنه قال‏:‏ إن للقرآن جسداً يجوز أن يقلب مرة رجلاً ومرة حيواناً وهذا مثل ما يحكى عن أبي بكر الأصم أنه زعم‏:‏ أن القرآن جسم مخلوق‏.‏

وأنكر الأعراض أصلاً وأنكر صفات الباري تعالى‏.‏

ومذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة إلا أن الميل منه ومن أصحابه إلى الطبيعيين منهم أكثر من الإلهيين‏.‏

 أصحاب أبى الحسين ابن أبي عمرو الخياط

أستاذ أبي القاسم بن محمد الكعبي وهما من معتزلة بغداد على مذهب واحد إلا أن الخياط غالى في إثبات المعدوم شيئاً وقال‏:‏ الشيء ما يعلم ويخبر عنه والجوهر جوهر في العدم والعرض عرض في العدم وكذلك أطلق جميع أسماء الأجناس والأصناف حتى قال‏:‏ السواد سواد في العدم فلم يبق إلا صفة الوجود أو الصفات التي تلزم الوجود والحدوث وأطلق على المعدوم لفظ الثبوت وقال في نفي الصفات عن الباري مثل ما قال أصحابه وكذا القول في القدر والسمع والعقل‏.‏

وانفرد الكعبي عن أستاذه بمسائل‏:‏ منها‏:‏ قوله‏:‏ إن إرادة الباري تعالى ليست صفة قائمة بذاته ولا هو مريد لذاته ولا إرادته حادثة في محل أو في لا محل بل إذا أطلق عليه أنه مريد فمعناه أنه‏:‏ عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره‏.‏

ثم إذا قيل‏:‏ هو مريد لأفعال عباده فالمراد به‏:‏ أنه آمر بها راض عنها‏.‏

وقوله في كونه سميعاً بصيرا ًراجع إلى ذلك أيضاً فهو سميع بمعنى أنه‏:‏ عالم بالمسموعات وبصير بمعنى انه‏:‏ عالم بالمبصرات‏.‏

وقوله في الرؤية كقول أصحابه‏:‏ نفياً وإحالة غير أن أصحابه قالوا‏:‏ يرى الباري تعالى ذاته ويرى المرئيات وكونه مدركاً لذلك زائد على كونه عالماً‏.‏

وقد أنكر الكعبي ذلك قال‏:‏ معنى قولنا‏:‏ يرى ذاته ويرى المرئيات‏:‏ أنه عالم بها فقط‏.‏

 الجبائية والبهشمية

أصحاب أبي على محمد بن عبد الوهاب الجبائي وابنه أبي هاشم عبد السلام وهما من معتزلة البصرة‏.‏

انفردا عن أصحابهما بمسائل وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل أما المسائل التي انفردا بها عن أصحابهما‏:‏ فمنها‏:‏ أنهما أثبتا إرادات حادثة لا في محل يكون الباري تعالى بها موصوفا مريداً وتعظيماً لا في محل إذا أراد أن يعظم ذاته وفناء لا في محل إذا أراد أن يفني العالم‏.‏

وأخص أوصاف هذه الصفات يرجع غليه من حيث إنه تعالى أيضاً لا في محل‏.‏

وإثبات موجودات هي أعراض أو في حكم الأعراض لا محل لها كإثبات موجودات هي جواهر أو في حكم الجواهر لا مكان لها وذلك قريب من مذهب الفلاسفة حيث أثبتوا عقلاً هو جوهر لا في محل ولا في مكان وكذلك النفس الكلية والعقول المفارقة‏.‏

ومنها‏:‏ أنهما حكما بكونه تعالى متكلما بكلام يخلقه في محل وحقيقة الكلام عندهما‏:‏ أصوات مقطعة وحروف منظومة والمتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام‏.‏

إلا أن الجبائي خالف أصحابه خصوصاً بقوله‏:‏ يحدث الله تعالى عند قراءة كل قارئ كلاماً لنفسه في محل القراءة وذلك حين ألزم‏:‏ أن الذي يقرؤه القارئ ليس بكلام الله والمسموع منه ليس من كلام الله فالتزم هذا المحال‏:‏ من إثبات أمر غير معقول ولا مسموع وهو إثبات كلامين في محل واحد‏.‏

واتفقا على‏:‏ نفي رؤية الله تعالى في بالأبصار في دار القرار وعلى القول إثبات الفعل للعبد خلقاً وإبداعاً وإضافة الخير الشر والطاعة والمعصية إليه استقلالاً واستبداداً وان الاستطاعة قبل الفل وهي‏:‏ قدرة زائدة على سلامة البنية وصحة الجوارح وأثبتا البنية شرطاً في قيام المعاني التي يشترط في ثبوتها الحياة وأثبتا شريعة عقلية وردا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر وبمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع‏.‏

والإيمان عندهما اسم مدح وهو عبارة عن خصال الخير التي إذا اجتمعت في شخص سمي بها‏:‏ مؤمناً ومن ارتكب كبيرة فهو في الحال يسمى فاسقاً‏:‏ لا مؤمناً ولا كافراً وإن لم يتب ومات عليها فهو مخلد في النار‏.‏

واتفقا على أن الله تعالى لم يدخر عن عباده شيئا مما علم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتوبة من الصلاح والأصح واللطف لأنه‏:‏ قادر عالم جواد حكيم‏:‏ لا يضره الإعطاء ولا ينقص من خزائنه المنح ولا يزيد في ملكه الادخار‏.‏

وليس الأصلح هو الألذ بل هو‏:‏ الأعود في العاقبة والأصوب في العاجلة وإن كان ذلك مؤلماً ومكروهاً وذلك‏:‏ كالحجامة والفصد وشرب الأدوية ولا يقال‏:‏ إنه تعالى يقدر على شيء هو أصلح مما فعله بعبده‏.‏

والتكاليف كلها ألطاف وبعثة الأنبياء وشرع الشرائع وتمهيد الأحكام ومما تخالفا فيه‏:‏ أما في صفات الباري تعالى فقال الجبائي‏:‏ الباري تعالى عالم لذاته قادر حي‏.‏

لذاته ومعنى قوله لذاته أي لا يقتضي كونه عالماً صفة هي‏:‏ علم أو حال توجب كونه عالماً‏.‏

وعند أبي هاشم‏:‏ هو عالم لذاته بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها فأثبت أحوالاً هي صفات‏:‏ لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة أي‏:‏ هي على حيا لهالا تعرف كذلك بل مع الذات‏.‏

قال والعقل يدرك فرقاً ضرورياً بين معرفة الشيء مطلقاً وبين معرفته على صفة فليس منم عرف الذات عرف كونه عالماً ولا من عرف الجوهر عرف الجوهر عرف كونه متحيزا قابلاً للعرض‏.‏

ولا شك أن الإنسان يدرك اشتراك الموجودات في قضية وافترقتا في قضية وبالضرورة يعلم أن ما اشتركت فيه غير ما افترقت به وهذه القضايا العقلية لا ينكرها عاقل وهي لا ترجع إلى الذات ولا إلى أعراض وراء الذات فإنه يؤدي إلى قيام العرض بالعرض فتعين بالضرورة أنها أحوال فكون العالم عالما حال هي صفة وراء كونه ذاتاً أي المفهوم منها غير المفهوم من الذات وكذلك كونه‏:‏ قادراً حياً‏.‏

ثم أثبت للباري تعالى حالة أخرى أوجبت تلك الأحوال‏.‏

وخالفه والده وسائر منكري الأحوال في ذلك وردوا الاشتراك والافتراق إلى الألفاظ وأسماء الأجناس وقالوا‏:‏ أليست الأحوال تشترك في كونها أحوالاً وتفترق في خصائص كذلك نقول في الصفات وإلا فيؤدي إلى إثبات الحال للحال ويفضي إلى التسلسل‏.‏

بل هي راجعة إما إلى مجرد الألفاظ إذ وضعت في الأصل على وجه يشترك فيها الكثير لا أن مفهومها معنى أو صفة ثابتة في الذات على وجه يشمل أشياء ويشترك فيها الكثير فإن ذلك مستحيل‏.‏

أو يرجع ذلك إلى وجوه واعتبارات عقلية هي المفهومة من قضايا الاشتراك والافتراق وتلك الوجوه‏:‏ كالنسب والإضافات والقرب والبعد وغير ذلك مما لا يعد صفات بالاتفاق‏.‏

وهذا هو اختيار أبي الحسن البصري وأبي الحسن الأشعري‏.‏

ورتبوا على هذه المسألة‏:‏ مسألة أن المعدوم شيء فمن يثبت كونه شيئاً كما نقلنا عن جماعة من المعتزلة فلا يبقى من صفات الثبوت إلا كونه موجوداً فعلى ذلك لا يثبت للقدرة في إيجادها أثراً ما سوى الوجود‏.‏

والوجود على مذهب نفاة الأحوال لا يرجع إلا إلى اللفظ المجرد وعلى مذهب مثبتي الأحوال هو حالة لا توصف بالوجود ولا بالعدم وهذا كما ترى من التناقض والاستحالة ومن نفاة الأحوال من يثبته شيئاً ولا يسميه بصفات الأجناس‏.‏

وعند الجبائي‏:‏ أخص وصف الباري تعالى هو القدم والاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك في الأعم‏.‏

وليت شعري‏!‏ كيف يمكن إثباته‏:‏ الاشتراك الافتراق والعموم والخصوص - حقيقة وهو من نفاة الأحوال فأما على مذهب أبي هاشم فلعمري هو مطرد غير أن القدم إذا بحث عن حقيقته واختلفا في كونه سميعاً بصيراً فقال الجبائي‏:‏ معنى كونه سميعاً بصيراً‏:‏ أنه حي لا آفة به‏.‏

وخالفه ابنه وسائر أصحابه‏:‏ أما ابنه فصار إلى أن كونه سميعاً حالة وكزنه بصيراً حالة وكونه بصيراً حالة سوى كونه عالماً لاختلاف‏:‏ القضيتين والمفهومين والمتعلقين والأثرين‏.‏

وقال غيره من أصحابه‏:‏ معناه كونه مدركا للمبصرات مدركاً للمسموعات‏.‏

واختلفا أيضاً في بعض مسائل اللطف فقال الجبائي فيمن يعلم الباري تعالى من حاله أنه لو آمن مع اللطف لكان ثوابه أقل لقلة مشقته ولو أمن بلا لطف لكان ويسوى بينه وبين من المعلوم من حاله أنه لا يفعل الطاعة على كل وجه إلا مع اللطف ويقول‏:‏ إذ لو كلفه مع عدم اللطف لوجب أن يكون مستفسداً حاله غير مزيح لعلته‏.‏

ويخالفه أبو هاشم في بعض المواضع في هذه المسألة قال‏:‏ يحسن منه تعالى أن يكلفه الإيمان على أشق لا وجهين بلا لطف‏.‏

واختلفا في فعل الألم للعوض فقال الجبائي‏:‏ يجوز ذلك ابتداء لأجل العوض والاعتبار جميعاً‏.‏

وتفصيل مذهب الجبائي في الأعواض على وجهين‏:‏

أحدهما أنه يقول‏:‏ يجوز التفضل بمثل الأعواض غير أنه تعالى علم أنه لا ينفعه عوض إلا على ألم متقدم‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنه إنما يحسن ذلك لأن العوض مستحق والتفضل غير مستحق‏.‏

والثواب عندهم ينفصل عن التفضل بأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ تعظيم وإجلال للمثاب يقترن بالنعيم والثاني‏:‏ قدر زائد على التفضل فلم يجب إذاً إجراء العوض مجرى الثواب لأنه لا يتميز عن التفضل بزيادة مقدار ولا بزيادة صفة‏.‏

وقال ابنه‏:‏ يحسن الابتداء بمثل العوض تفضلاً والعوض منقطع غير دائم‏.‏

وقال الجبائي‏:‏ يجوز أن يقع الانتصاف من الله تعالى للمظلوم من الظالم بأعواض يتفضل بها عليه إذا لم يكن للظالم على الله عوض لشيء ضره به‏.‏

وزعم أبو هاشم‏:‏ أن التفضل لا يقع به نتصاف لأن التفضل ليس يجب عليه فعله‏.‏

وقال الجبائي وابنه‏:‏ لا يجب على الله شيء لعباده في الدنيا إذا لم يكلفهم عقلاً وشرعاً فأما إذا كلفهم‏:‏ فعل الواجب في عقولهم واجتناب القبائح وخلق فيهم الشهوة للقبيح والنفور من الحسن وركب فيهم الأخلاق الذميمة فإنه يجب عليه عند هذا التكليف إكمال العقل ونصب الأدلة والقدرة والاستطاعة وتهيئة الآلة بحيث يكون مزيحاً لعللهم فيما أمرهم‏.‏

ويجب عليه أن يفعل بهم‏:‏ أدعى الأمور إلى فعل ما كلفهم به وأزجر الأشياء لهم عن فعل القبيح الذي نهاهم عنه ولهم في مسائل هذا الباب خبط طويل‏.‏

وأما كلام جميع المعتزلة البغداديين في النبوة والإمامة فيخالف كلام البصريين فإن مكن شيوخهم من يميل إلى الروافض ومنهم من يميل إلى الخوارج‏.‏

والجبائي وأبو هاشم قد وافقا أهل السنة في الإمامة غير أنهم ينكرون الكرامات أصلا للأولياء‏:‏ من الصحابة وغيرهم‏.‏

ويبالغون في عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الذنوب‏:‏ كبائرها وصغائرها حتى منع الجبائي القصد إلى الذنب إلا على تأويل‏.‏

والمتأخرون من المعتزلة مثل القاضي عبد الجبار وغيره انتهجوا أدلة الشيوخ واعترض على ذلك بالتزييف والإبطال وافرد عنهم بمسائل‏:‏ منها نفي الحال ومنها نفي المعدوم شيئاً ومنها نفي الألوان أعراضاً ومنها قوله‏:‏ كلها إلى كون الباري تعالى‏:‏ عالماً قادرا مدركاً‏.‏

وله ميل إلى مذهب هشام بن الحكم في أن الأشياء لا تعلم قبل كونها‏.‏

والرجل فلسفي المذهب إلا أنه روج كلامه على المعتزلة في معرض الكلام فراج عليهم لقلة معرفتهم بمسالك المذاهب‏.‏

 الباب الثاني‏:‏ الجبرية

الجبر‏:‏ هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى والجبرية أصناف‏:‏ فالجبرية الخالصة‏:‏ هي التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً والجبرية المتوسطة‏:‏ هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلاً فأما من أثبت للقدرة أثراً ما في لفعل وسمى ذلك كسباً فليس بجبري‏.‏

والمعتزلة يسمون من لم يثبت للقدرة الحادثة أثراً في الإبداع والإحداث استقلالاً‏:‏ جبرياً ويلزمهم أن يسموا من قال من أصحابهم بأن المتولدات أفعال لا فاعل لها‏:‏ جبرياً إذ لم يثبتوا للقدرة الحادثة فيها أثراً‏.‏

والمصنفون في المقالات عدوا النجارية والضرارية‏:‏ من الجبرية وكذلك جماعة الكلابية‏:‏ من الصفاتية‏.‏

والأشعرية سموهم تارة حشوية وتارة جبرية‏.‏

ونحن سمعنا إقرارهم على أصحابهم من النجارية والضرارية فعددناهم من الجبرية ولم نسمع إقرارهم على غيرهم فعددناهم من الصفاتية‏.‏

 الجهمية

أصحاب جهم بن صفوان وهو من الجبرية الخالصة‏.‏

ظهرت بدعته بترمذ وقتله سالم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية‏:‏ وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم بأشياء‏:‏ منها قوله‏:‏ لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقضي تشبيهاً فنفى كونه‏:‏ حياً عالماً وأثبت كونه‏:‏ قادراً فاعلاً خالقاً لأنه لا يوصف شيء من خلقه‏:‏ بالقدرة والفعل والخلق‏.‏

ومنها لإثباته علوماً حادثة للباري تعالى لا في محل قال‏:‏ لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه لأنه لو علم ثم خلق‏!‏ أفبقي علمه على ما كان أم لم يبق فإن بقى فهو جهل فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد وإن لم يبق فقد تغير والمتغير مخلوق ليس بقديم‏.‏

ووافق في هذا مذهب هشام بن الحكم كما تقرر قال‏:‏ وإذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو‏:‏ إما أن يحدث في ذاته تعالى وذلك يؤدي إلى التغير في ذاته وأن يكون محلاً للحوادث وإما أ يحدث في محل فيكون المحل موصوفا به لا الباري تعالى‏.‏

فتعين أنه لا محل له فأثبت علوما حادثة بعدد الموجودات المعلومة‏.‏

ومنها قوله في القدرة الحادثة‏:‏ إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله‏:‏ لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات كما يقال‏:‏ أثمرت الأشجار وجرى الماء وتحرك الحجر وطلعت الشمس وغربت وتغيمت السماء وأمطرت واهتزت الأرض وأنبتت إلى غير ذلك‏.‏

والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال كلها جبر قال‏:‏ وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً‏.‏

ومنها قوله‏:‏ إن حركات أهل الخلدين تنقطع والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما وتلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بحميمها إذ لا تتصور حركات لا تتناهى آخراً كما لا تتصور حركات حركات لا تتناهى أولاً وحمل قوله تعالى‏:‏ خالدين فيها على المبالغة والتأكيد دون الحقيقة في التخليد كما يقول‏:‏ خلد الله ملك فلان واستشهد على الانقطاع بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ‏"‏‏.‏

فالآية اشتملت على شريطة واستثناء‏.‏

والخلود والتأييد لا شرط فيه ولا استثناء‏.‏

ومنها قوله‏:‏ من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده لأن العلم والمعرفة لا يزلان بالجحد فهو مؤمن قال‏:‏ ولا يتفاضل أهله فيه فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد إذ المعارف لا تتفاضل‏.‏

وكان السلف كلهم من أشد الرادين عليه‏.‏

ونسبته إلى التعطيل المحض‏.‏

وهو أيضاً موافق للمعتزلة في نفي الرؤية وإثبات خلق الكلام وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع‏.‏

 النجارية

أصحاب الحسين بن محمد النجار وأكثر معتزلة الري وما حواليها على مذهبه وهم وإن اختلفوا أصنافاّ غلا أنهم لم يختلفوا في المسائل التي عددناها أصولاً وهم برغوثية وزعفرانية ومستدركة وافقوا المعتزلة في نفي الصفات‏:‏ من العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر ووافقوا الصفاتية في خلق الأعمال‏.‏

قال النجار‏:‏ الباري تعالى مريد لنفسه كما هو عالم لنفسه فألزم عموم التعلق فالتزم وقال‏:‏ هو مريد الخير والشر والنفع والضر‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ معنى كونه مريداً أنه غير مستكره ولا مغلوب‏.‏

وقال‏:‏ هو خالق أعمال العباد‏:‏ خيرها وشرها حسنها وقبيحها والعبد مكتسب لها‏.‏

وأثبت تأثيراً للقدرة الحادثة وسمى ذلك كسباً على حسب ما يثبته الأشعري ووافقه أيضاً في أن الاستطاعة مع الفعل‏.‏

وأما في مسألة الرؤية فأنكر رؤية الله تعالى بالأبصار وأحالها غير أنه قال‏:‏ يجوز أن يحول الله تعالى القوة التي في القلب - من المعرفة - إلى العين فيعرف الله تعالى بها فيكون ذلك رؤية‏.‏

وقال بحدوث الكلام لكنه انفرد عن المعتزلة بأشياء‏:‏ منها قوله‏:‏ إن كلام الباري تعالى إذا قرئ فهو عرض وإذا كتب فهو جسم‏.‏

ومن العجب أن الزعفرانية قالت‏:‏ كلام الله عيره وكل ما هو غيره ح فهو مخلوق ومع ذلك قالت‏:‏ كل من قال‏:‏ إن القرآن مخلوق فهو كافر ولعلهم أرادوا بذلك‏:‏ الاختلاف وإلا فالتناقض ظاهر‏.‏

والمستدركة منهم زعموا‏:‏ أن كلامه غيره وهو مخلوق لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ كلام الله غير مخلوق ‏"‏ والسلف عن آخرهم أجمعوا على هذه العبارة فوافقناهم وحملنا قولهم غير مخلوق أي‏:‏ على هذا الترتيب والنظم من الحروف والأصوات بل هو مخلوق غير هذه الحروف بعينها وهذه حكاية عنها‏.‏

وحكى الكعبي عن النجار أنه قال‏:‏ الباري تعالى بكل مكان ذاتاً وموجوداً لا وقال في المفكر قبل ورود السمع مثل ما قالت المعتزلة‏:‏ أنه يجب عليه تحصيل المعرفة بالنظر والاستدلال‏.‏

وقال في الإيمان إنه عبارة عن التصديق ومن ارتكب كبيرة ومات عليها من غير توبة عوقب على ذلك ويجب أن يخرج من النار فليس من العدل التسوية بينه وبين الكفار في الخلود‏.‏

ومحمد بن عيسى الملقب ببرغوث وبشر بن غياث المريسي والحسين النجار‏:‏ متقاربون في المذهب‏.‏

وكلهم أثبتوا كونه تعالى مريداً - لم يزل - لكل ما علم أنه سيحدث من‏:‏ خير وشر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية‏.‏

وعامة المعتزلة يأبون ذلك‏.‏

 الضرارية

أصحاب ضرار بن عمرو وحفص الفرد واتفقا‏:‏ في التعطيل وعلى أنهما قالا‏:‏ الباري تعالى قادر على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز‏.‏

وأثبتا لله سبحانه ماهية لا يعلمها إلا هو وقالا‏:‏ إن هذه المقالة محكية عن أبي حنيفة رحمه الله وجماعة من أصحابه وأرادا بذلك‏:‏ أنه يعلم نفسه شهادة لا بدليل ولا خبرن ونحن نعلمه بدليل وخبر‏.‏

وأثبتا حاسة سادسة للإنسان يرى بها الباري تعالى يوم الثواب في الجنة‏.‏

وقالا‏:‏ أفعال العباد مخلوقة للباري تعالى حقيقة والعبد مكتسبها حقيقة وجوزاً حصول فعل بين فاعلين‏.‏

وقالا‏:‏ يجوز أن يقلب الله تعالى الأعراض أجساماً والاستطاعة والعجز بعض الجسم وهو جسم ولا محالة بنفي زمانين‏.‏

وقالا‏:‏ الحجة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإجماع فقط فما ينقل عنه في أحكام الدين من طريق أخبار الآحاد فغير مقبول‏.‏

ويحكى عن ضرار‏:‏ أنه كان ينكر حرف عبد الله بن مسعود وحرف أبي بن كعب ويقطع بأن الله تعالى لم ينزله‏.‏

وقال في المفكر قبل ورود السمع‏:‏ إنه لا يجب عليه بعقله شيء حتى يأتيه الرسول فيأمره وينهاه ولا يجب على لله تعالى شيء بحكم العقل‏.‏

وزعم ضرار أيضاً‏:‏ أن الإمامة تصلح في غير قريش حتى إذا اجتمع قرشي ونبطي قدمنا النبطي إذ هو أقل عدداً وأضعف وسيلة فيمكننا خلعه إذا خالف الشريعة‏.‏

والمعتزلة وإن جوزوا الإمامة في غير قريش إلا أنهم لا يجوزون تقديم النبطي على القرشي‏.‏

 الباب الثالث الصفاتية

اعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقا واحداً‏.‏

وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل‏:‏ اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون‏:‏ هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها‏:‏ صفات خبرية‏.‏

ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون سمى السلف‏:‏ صفاتية والمعتزلة‏:‏ معطلة فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها وما ورد به الخبر فافترقوا فيه فرقتين فمنهم من أوله على وجه يحتمل اللفظ ذلك ومنهم من توقف في التأويل‏.‏

وقال‏:‏ عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء‏.‏

فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الرحمن على العرش استوى ‏"‏ ومثل قوله‏:‏ ‏"‏ خلقت بيدي ‏"‏ ومثل قوله‏:‏ ‏"‏ وجاء ربك إلى غير ذلك ‏"‏ ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه‏:‏ لا شريك له وليس كمثله شيء وذلك قد أثبتناه يقيناً‏.‏

ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا‏:‏ لابد من إجرائها على ظاهرها والقول بتفسيرها كما وردت من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر فوقعوا في التشبيه الصرف وذلك على خلاف ما أعتقده السلف‏.‏

ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود لا في كلهم بل في القرائين منهم إذ وجدوا في التوراة ألفاظاً كثيرة تدل على ذلك‏.‏

ثم الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير‏:‏ أما الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس وأما التقصير فتشبيه الغلة بواحد من الخلق‏.‏

ولما ظهرت المعتزلة والمتكلمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلو والتقصير ووقعت في الاعتزال وتخطت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر فوقعت في التشبيه‏.‏

وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم‏:‏ مالك ابن أنس رضي الله عنهما إذ قال‏:‏ الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة‏.‏

ومثل أحمد بن حنبل رحمه الله‏.‏

وسفيان الثوري وداود بن علي الأصفهاني ومن تابعهم‏.‏

حتى انتهى الزمان إلى‏:‏ عبد الله بن سعيد الكلابي وأبي العباس القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية وصنف بعضهم ودرس بعض‏.‏

حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة فأيد مقالتهم بمناهج كلامية وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة‏.‏

وانتقلت سمة الصفاتية إلى الاشعرية‏.‏

ولما كانت المشبهة والكرامية‏:‏ من مثبتي الصفات عددناهم‏:‏ فرقتين من جملة الصفاتية‏.‏

 الأشاعرة

أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما‏.‏

وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه‏.‏

وقد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص وبينه‏:‏ فقال عمرو‏:‏ أين أجد أحداً أحاكم إليه ربي فقال أبو موسى‏:‏ أنا ذلك المتحاكم إليه فقال عمرو‏:‏ أو يقدر على شيئاً ثم يعذبني عليه قال‏:‏ نعم قال عمرو‏:‏ ولم قال‏:‏ لا يظلمك فسكت عمرو ولم يحر جواباً‏.‏

قال الأشعري‏:‏ الإنسان إذا فكر في خلقته‏:‏ من أي شيء ابتدأ وكيف دار في أطوار الخلقة طوراً بعد طور حتى وصل إلى كمال الخلقة وعرف يقيناً‏:‏ أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته وينقله من درجة إلى درجة ويرقيه من نقص إلى كمال‏.‏

علم بالضرورة أن له‏:‏ صانعاً قادراً عالماً مريداً إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع لظهور آثار الاختيار في الفطرة وتبين آثار الإحكام والإتقان في الخلقة فله صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها وكما دلت الأفعال على كونه‏:‏ عالماً قادراً مريداً‏.‏

دلت على‏:‏ العلم والقدرة والإرادة لأن وجه الدلالة لا يختلف شاهداً وغائباً وأيضاً لا معنى للعلم حقيقة إلا أنه ذو علم ولا للقادر إلا أنه ذو قدرة ولا للمريد ألا أنه ذو إرادة فيحصل بالعلم والإحكام والإتقان ويحصل بالقدرة الوقوع والحدوث ويحصل بالإرادة التخصيص بوقت دون وقت وقدر دون قدر وشكل دون شكل‏.‏

وهذه الصفات لن يتصور أن يوصف بها الذات إلا وأن يكون الذات حياً بحياة للدليل الذي ذكرناه‏.‏

وألزم منكري الصفات إلزاماً لامحيص لهم عنه وهو‏:‏ أنكم وافقتمونا - بقيام الدليل - على كونه عالماً قادراً فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون المفهومان من الصفتين واحداً أو زائداً فإن كان واحداً فيجب أن يعلم بقادريته ويقدر بعالميته ويكون من علم الذات مطلقاً علم كونه عالما قادراً وليس الأمر كذلك فعلم أن الاعتبارين مختلفان فلا يخلو‏:‏ إما أن يرجع الاختلاف إلى مجرد اللفظ أو إلى الحال أو إلى الصفة‏.‏

وبطل رجوعه إلى اللفظ المجرد فإن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين ولو قدر عدم الألفاظ رأساً ما ارتاب العقل فيما تصوره‏.‏

وبطل رجوعه إلى الحال فإن إثبات صفة لا توصف بالوجود ولا بالعدم إثبات واسطة بين‏:‏ الوجود والعدم والإثبات والنفي وذلك محال‏.‏

فتعين الرجوع إلى صفة قائمة بالذات وذلك‏:‏ مذهبه‏.‏

على أن القاضي أبا بكر الباقلاني من أصحاب الأشعري قد ردد قوله في إثبات الحال ونفيها وتقرر رأيه على الإثبات ومع ذلك أثبت الصفات معاني قائمة به لا أحوالاً‏.‏

وقال‏:‏ الحال الذي أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة‏:‏ خصوصاً إذا أثبت حالة أوجبت تلك الصفات‏.‏

قال أبو الحسن‏:‏ الباري تعالى‏:‏ عالم بعلم قادر بقدرة حي بحياة مريد بإرادة متكلم بكلام سميع بسمع بصير ببصر وله في البقاء اختلاف رأي‏.‏

قال‏:‏ وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى لا يقال‏:‏ هي هو ولا‏:‏ هي غيره ولا‏:‏ لا هو ولا‏:‏ لا غيره‏.‏

والدليل على أنه متكلم بكلام قديم ومريد بإرادة قديمة‏:‏ أنه قد قام الدليل على أنه تعالى ملك والملك من له الأمر والنهي فهو آمر نله فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون آمراً بأمر قديم أو بأمر محدث وإن كان محدثاً فلا يخلو‏:‏ إما أن يحدثه في ذاته أو في محل أو لا في محل‏.‏

ويستحيل أن يحدثه في ذاته لأنه يؤدي إلى أن يكون محلاً للحوادث وذلك محال ويستحيل أن يحدثه في محل لأنه يوجب أن يكون المحل به موصوفاً ويستحيل أن يحدثه لا في محل لان ذلك غير معقول فتعين أنه‏:‏ قديم قائم به صفة له‏.‏

وكذلك التقسيم في الغدارة والسمع والبصر‏.‏

قال‏:‏ وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات‏:‏ المستحيل والجائز والواجب والموجود والمعدوم‏.‏

وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصلح وجوده من الجائزات‏.‏

وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص‏.‏

وكلامه واحد هو‏:‏ أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه لا إلى عدد في نفس الكلام والعبارات‏.‏

والألفاظ المذلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي والدلالة مخلوقة محدثة والمدلول قديم أزلي‏.‏

والفرق بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو‏:‏ كالفرق بين الذكر والمذكور فالذكر محدث والمذكور قديم‏.‏

وخالف الأشعري بهذا التدقيق جماعة من الحشوية إذ أنهم قضوا بكون الحروف والكلمات قديمة‏.‏

والكلام عند الأشعري‏:‏ معنى قائم بالنفس سوى العبارة والعبارة دلالة عليه من الإنسان فالمتكلم عنده من قام بالكلام وعند المعتزلة من فعل الكلام غير أن العبارة تسمى كلاماً‏:‏ إما بالمجاز وإما باشتراك اللفظ‏.‏

قال‏:‏ وإرادته‏:‏ واحدة قديمة أزلية متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة وأفعال عباده من حيث إنها مخلوقة له لا من حيث أنها مكتسبة لهم فعن هذا قال‏:‏ أراد الجميع خيرها وشرها ونفعها وضرها وكما أراد وعلم أراد من العباد ما علم وأمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل‏.‏

وخلاف المعلوم‏:‏ مقدور الجنس محال الوقوع‏.‏

وتكليف ما لا يطاق جائز على مذهبه للعلة التي ذكرناها ولأن الاستطاعة عنده عرض والعرض لا يبقى زمانين‏:‏ ففي حال التكليف لا يكون المكلف قط قادراً لأن المكلف من يقدر على إحداث ما أمر به‏.‏

فأما أن يجوز ذلك في حق من لا قدرة له أصلاً على الفعل فمحال إذ الإنسان يجد في نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة وبين حركات الاختيار والإرادة‏.‏

والتفرقة راجعة إلى أن الحركات الاختيارية حاصلة تحت القدرة متوقفة على اختيار القادر فعن هذا قال‏:‏ المكتسب هو المقدور بالقدرة الحاصلة والحاصل تحت القدرة الحادثة‏.‏

ثم على أصل أبي الحسن‏:‏ لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث حتى تصلح لإحداث‏:‏ الألوان والطعوم والروائح وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة‏.‏

غير أن الله تعالى أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها‏:‏ الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له ويسمى هذا الفعل كسباً فيكون خلقاً من الله تعالى‏:‏ إتباعاً وإحداثا وكسبا من العبد‏:‏ حصولاً تحت قدرته‏.‏

والقاضي أبي بكر الباقلاني تحظى عن هذا القدر قليلاً فقال‏:‏ الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث فقط بل ههنا وجوه أخر هن وراء الحدوث من كون الجوهر‏:‏ متحيزاً قابلاً للعرض ومن كون العرض عرضاً ولوناً وسواداً‏.‏

وغير ذلك وهذه أحوال عند مثبتي الأحوال‏.‏

قال‏:‏ فجهة كون الفعل حاصلاً بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة‏.‏

ويسمى ذلك‏:‏ كسباً وذلك هو أثر القدرة الحادثة‏.‏

قال‏:‏ وإذا جاز على أصل المعتزلة‏:‏ أن يكون تأثير القدرة أو القادرية القديمة في حال‏:‏ هو الحدوث والوجود أو في وجه منن وجوه الفعل فلم لا يجوز أن يكون تأثير القدرة الحادثة في حال‏:‏ هو صفة للحادث أو في وجه من وجوه الفعل وهو كون الحركة مثلا على هيئة مخصوصة وذلك أن المفهوم من الحركة مطلقاً ومن العرض مطلقاً غير المفهوم من القيام والقعود وهما حالتان متمايزتان فإن كل قيام حركة وليس كل حركة قياماً‏.‏

ومن المعلوم‏:‏ أن الإنسان يفرق فرقاً ضرورياً بين قولنا‏:‏ أوجد وبين قولنا‏:‏ صلى وصام وقعد وقام‏.‏

وكما لا يجوز أن يضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد فكذلك لا يجوز أن يضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى فأثبت القاضي تأثيرً للقدرة الحادثة‏.‏

وأثرها‏:‏ هي الحالة الخاصة وهي جهة من جهات الفعل حصلت من تعلق القدرة الحادثة بالفعل وتلك الجهة هي المعينة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب خصوصا على أصل المعتزلة فإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء والحسن والقبح صفتان ذاتيتان مراء الوجود فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح‏.‏

قال‏:‏ فإذا جاز لكم إثبات صفتين‏:‏ هما حالتان‏.‏

جاز إثبات حالة‏:‏ هي متعلق القدرة الحادثة‏.‏

ومن قال‏:‏ هي حالة مجهولة فبينا بقدر الإمكان جهتها وعرفناها آي هي ومثلناها كيف هي‏.‏

ثم أن إمام الحرمين أبا المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلاً قال‏:‏ أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحس وأما إثبات قدرة لا أثر لها بوجه فهو كنفي القدرة أصلاً وأما إثبات تأثير في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير خصوصاً والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم‏.‏

فلا بد إذا من نسبة فعل البدع إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم والإنسان كما يحس من نفسه والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر‏.‏

حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب فهو‏:‏ الخالق للأسباب ومسبباتها المستغني عن الإطلاق فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر‏.‏

وهذا الرأي إنما أخذ من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام‏.‏

وليس يختص نسبة السبب إلى المسبب على أصله بالفعل والقدرة بل كل ما يوجد من الحوادث فذلك حكمه‏.‏

وحينئذ يلزم القول‏:‏ بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً‏.‏

وليس ذلك مذهب الإسلاميين‏.‏

كيف ورأى المحققين من الحكماء‏:‏ أن الجسم لا يؤثر فبي إيجاد الجسم قالوا‏:‏ الجسم لا يجوز أن يصدر عن جسم ولا عن قوة ما في الجسم فإن الجسم مركب من مادة وصورة فلو أثر لأثر بجهتيه أعني بمادته وصورته والمادة لها طبيعة عدمية فلو أثرت لأثرت بمشاركة العدم والتالي محال فالمقدم إذاً محال فنقيضه حق وهو أن الجسم وقوة ما في الجسم‏:‏ لا يجوز أن يؤثر في جسم‏.‏

وتخطى من هو أشد تحققاً وأغوص تفكيراً عن الجسم وقوة ما في الجسم إلى كل ما هو جائز بذاته فقال‏:‏ كل ما هو جائز بذاته لا يجوز أنن يحدث شيئاً ما فإنه لو أحدث لأحدث بمشاركة الجواز والجواز له طبيعة عدمية فلو خلى الجائز وذاته كان عدماً فلو أثر الجواز بمشاركة العدم لأدى إلى أن يؤثر العدم في الوجود وذلك محال‏.‏

فإذاً لا موجد على الحقيقة إلا واجب الوجود لذاته وما سواه من الأسباب معدات لقبول الوجود لا محدثات لحقيقة الجود ولهذا شرح سنذكره‏.‏

ومن العجب‏:‏ أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة فكيف يمكن إضافة الفعل إلى الأسباب حقيقة‏!‏ هذا ونعود إلى كلام صاحب المقالة‏.‏

قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري‏:‏ إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى لا يشاركه في الخلق غيره فأخص وصفه تعالى هو‏:‏ القدرة على الاختراع‏.‏

قال‏:‏ وهذا هو تفسير اسمه تعالى الله‏.‏

وقال الأستاذ أبو اسحق الإسفرايني‏:‏ أخص وصفه هو‏:‏ كون يوجب تمييزه عن الأكوان كلها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ نعلم يقيناً‏:‏ أن ما من موجود إلا ويتميز عن غيره بأمر ما وإلا فيقتضي أن تكون الموجودات كلها مشتركة متساوية والباري تعالى موجود فيجب أن يتميز عن سائر الموجودات بأخص وصف إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة ذلك الأخص ولم يرد به سمع فنتوقف ثم‏:‏ هل يجوز أن يدركه العقل ففيه خلاف أيضاً‏.‏

وهذا قريب من مذهب ضرار غير أن ضراراً أطلق لفظ الماهية عليه تعالى وهو من حيث العبارة منكر‏.‏

ومن مذهب الأشعري‏:‏ أن كل موجود يصح أن يرى‏:‏ فإن المصحح للرؤية إنما هو موجود والباري تعالى موجود فيصح أن يرى وقد ورد السمع بأن المؤمنين يرونه في الآخرة قال الله تعالى‏:‏ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها‏.‏

إلى غير ذلك من الآيات والأخبار‏.‏

قال‏:‏ ولا يجوز أن تتعلق به الرؤية على‏:‏ جهة ومكان وصورة ومقابلة واتصال شعاع أو على سبيل انطباع فإن كل ذلك مستحيل‏.‏

وله قولان في ماهية الرؤية‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه علم مخصوص ويعني بالخصوص أنه متعلق بالوجود دون العدم

والثاني‏:‏ أنه إدراك وراء العلم لا يقتضي تأثيراً في المدرك ولا تأثراً عنه‏.‏

وأثبت أن السمع والبصر للباري تعالى صفتان أزليتان هما إدراكان وراء العلم يتعلقان بالمدركات الخاصة بكل واحد بشرط الوجود‏.‏

وأثبت اليدين والوجه صفات خبرية فيقول‏:‏ ورد بذلك السمع فيجب الإقرار به كما ورد‏.‏

وصاغوه إلى طريقة السلف من نرك التعرض للتأويل وله قول أيضاً في جواز التأويل‏.‏

ومذهبه في الوعد والوعيد والأسماء والأحكام والسمع والعقل‏:‏ مخالف للمعتزلة من كل وجه‏.‏

قال‏:‏ الإيمان هو التصديق بالجنان وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه فمن صدق بالقلب أي‏:‏ أقر بوحدانية الله تعالى واعترف بالرسل تصديقاً لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى بالقلب صح إيمانه حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمناً ناجياً ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك‏.‏

وصاحب الكبيرة‏:‏ إذا خرج من الدنيا من غير توبة يكون حكمه إلى الله تعالى‏:‏ إما أن يغفر له برحمته وإما أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏"‏ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ‏"‏‏.‏

وإما أن يعذبه بمقدار جرمه ثم يدخله الجنة برحمته ولا يجوز أن يخلد في النار مع الكفار لما ورد به السمع‏:‏ بالإخراج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان‏.‏

قال‏:‏ ولو تاب فلا أقول‏:‏ بأنه يجب على الله تعالى قبول توبته بحكم العقل إذ هو الموجب فلا يجب عليه شيء بلى‏:‏ ورود السمع بقبول توبة التائبين وإجابة دعوة المضطرين‏.‏

وهو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلو أدخل الخلائق بأجمعهم في الجنة لم يكن حيفاً ولو أدخلهم النار لم يكن جوراً إذ الظلم هو‏:‏ التصرف فيما لا يملكه المتصرف أو وضع الشيء في غير موضعه وهو المالك المطلق فلا يتصور منه ظلم ولا ينسب إليه جور‏.‏

قال‏:‏ والواجبات كلها سمعية والعقل لا يوجب شيئاً ولا يقتضي تحسينا ًو لا تقبيحاً فمعرفة الله تعالى‏:‏ بالعقل تحصل وبالسمع‏:‏ تجب قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ‏"‏‏.‏

وكذلك‏:‏ شكر المنعم وإثابة المطيع وعقاب العاصي يجب بالسمع دون العقل‏.‏

ولا يجب على الله تعالى شيء ما بالعقل‏:‏ لا الصلاح ولا أصلح ولا اللطف‏.‏

وكل ما يقتضيه العقل من جهة الحكمة الموجبة فيقتضي نقيضه من وجه آخر‏.‏

وأصل التكليف لم يكن واجباً على الله تعالى إذ لم يرجع إليه نفع ولا اندفع به عنه ضر‏.‏

وهو قادر على مجازاة العبيد‏:‏ ثواباً وعقاباً وقادر على الإفضال عليهم ابتداء‏:‏ تكرماً وتفضلاً‏.‏

والثواب والنعيم واللطف كله منه فضل والعقاب والعذاب كله عدل‏:‏ ‏"‏ لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون ‏"‏‏.‏

وإبعاث الرسل من القضايا الجائزة لا الواجبة ولا المستحيلة ولكن بعد الانبعاث تأييدهم بالمعجزات وعصمتهم من الموبقات من جملة الواجبات إذ لا بد من طريق للمستمع يسلكه ليعرف به صدق المدعي ولا بد من إزاحة العلل فلا يقع في التكليف تناقض‏.‏

والمعجزة‏:‏ فعل خارق للعادة مقترن بالتحدي سليم عن المعارضة يتنزل منزلة التصديق بالقول من حيث القرينة وهو منقسم إلى خرق المعتاد وإلى إثبات غير المعتاد‏.‏

والكرامات للأولياء حق وهو من وجه‏:‏ تصديق للأنبياء وتأكيد للمعجزات‏.‏

والإيمان والطاعة بتوفيق الله تعالى والكفر والمعصية بخذلانه والتوفيق عنده‏:‏ خلق القدرة على الطاعة والخذلان عنده‏:‏ خلق القدرة على المعصية‏.‏

وعند بعض أصحابه‏:‏ تيسير أسباب الخير هو التوفيق وبضده الخذلان‏.‏

وما ورد به السمع من الأخبار عن الأمور الغائبة مثل‏:‏ القلم واللوح والعرش والكرسي والجنة والنار فيجب إجراؤها على ظاهرها والإيمان بها كما جاءت إذ لا استحالة في إثباتها‏.‏

وما ورد من الأخبار عن الأمور المستقبلة في الآخرة مثل سؤال القبر والثواب والعقاب فيه ومثل‏:‏ الميزان والحساب والصراط وانقسام الفريقين‏:‏ فريق في الجنة وفريق في السعير‏.‏

حتى يجب الاعتراف بها وإجراؤها على ظاهرها إذ لا استحالة في وجودها‏.‏

والقرآن عنده معجز من حيث‏:‏ البلاغة والنظم والفصاحة إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة‏.‏

ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي وهو المنع من المعارضة ومن جهة الإخبار عن الغيب‏.‏

وقال‏:‏ الإمامة تثبت باتفاق والاختيار دون النص والتعيين إذ لو كان ثم نص لما خفي والدواعي تتوفر على نقله‏.‏

واتفقوا في سقيفة بني ساعدة على أبي بكر رضي الله عنه ثم اتفقوا بعد تعيين أبي بكر على عمر رضي الله عنه واتفقوا بعد الشورى على عثمان رضي الله وقال‏:‏ لا نقول في عائشة وطلحة والزبير‏:‏ إلا أنهم رجعوا عن الخطأ والزبير من العشرة الأوائل المبشرين بالجنة‏.‏

ولا نقول في حق معاوية وعمرو بن العاص‏:‏ إلا أنهما بغيا على الإمام الحق فقاتلهم علي مقاتلة أهل البغي‏.‏

وأما أهل النهران فهم الشراة المارقون على الدين بخبر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولقد كان علي رضي الله عنه على الحق في جميع أحواله يدور الحق معه حيث دار‏.‏